السبت، 11 مايو 2019

صيام الحواس والجوارح


كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش

صيام الحواس والجوارح


                                 
بقلم: سوسن سحاب

                                         
القلب يصوم عن الهوى والكبرو الغرور والحسد

صوم العين عن النظر المحرم والغمز وخائنة الأعين

اللسان يصوم عن الكذب والغيبة والبذاءة والسخرية من الناس. 



الصوم ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو أيضًا امتناع عن معصية الله  فلا فائدة من عقاب النفس بتجويعها إن لم يرافقها صوم الحواس والجوارح كلها عما حرم الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".

أي من لم يترك قول الكذب والعمل به فلا فائدة من صيامه، وكثيرا من الناس لا يجني من صيامه في رمضان إلا الجهد والتعب... كقوله صلى الله عليه وسلم "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".
وأتساءل....
ما فائدة الصوم عن المأكل والمشرب إذا لم يصاحبه صوما للحواس والجوارح؟؟ 
ما فائدة الصوم للإنسان إذا لم يُعِنْه صومه على تهذيب مشاعره، وتدريب إرادته وصقل حواسه؟؟ 

وكل هذه الأمور ينبغي ألا تنتهي بإنتهاء شهر الصوم، بل أن يكون الصوم هو تمرين وتمهيد لممارسةً دائمة طوال السنة ولا تخرج الناس من رمضان كأنها خارجة من معتقل أو سجن فتبيح لنفسها فعل ما حُرِمت منه طوال شهر كامل!!!!

ولكلِّ عضو من أعضاء الجسم وحاسة من حواسه وجارحة من جوارحه "صيام" خاص، فمثلا للعين صيامها، وللأذن صيامها، وللسان صيامه، وللقلب صيامه..إلخ. 

وكل جارحة إستخدمها الإنسان في غير ما خلقت لأجله ستشهد عليه يوم القيامة إذا هو أنكر الأفعال التي فعلها في الدنيا، لقوله تعالى "وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ  وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ (22)".  فصلت21، 22

ويشبه الله تعالى من لا يستخدم حواسه وجوارحه الاستخدام الأمثل بأنهم كالأنعام "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هم الغافلون". الأعراف 179



صيام القلب 

القلب هو جماع كل الحواس وقال تعالى "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور" الحج 46.

ويوضح الله تعالى أن القلوب تعقل وترى أو تضل وتعمى، فالعمى هنا هو عمى البصيرة (القلب) وليس عمى البصر.
 وقال مجاهد لكل إنسان أربع أعين عينان في رأسه لدنياه وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه لم يضره عماه شيئاً، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظره شيئاً. 

وهداية القلب الأساس لهداية الإنسان ككل وصلاح القلب هو صلاح وسعادة للجسد كله وفساده يهلك الجسم ويفسده. وقال تعالى "وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ" التغابن 11.

وقال صلى الله عليه وسلم" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
وقد ذكر القلب في آيات كثيرة وخاصة في وصف الكافرين أن قلوبهم "غلف"- مغطاة أو مغلفة- و"في أكنة"-أغطية- ووصف المنافقين بأن "في قلوبهم مرض", وقال تعالى عمن لا يتخذ القرآن منهاجا "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" محمد 24.
وقلب المؤمن يصوم في رمضان وغيره لأنه عامر بحب الله مضئ بنور ربه وهدايته 

وصيام القلب يكون بإفراغه من الهوى والوساوس المهلكة والنوايا السيئة والتقليد الأعمى لأهل الضلال، ويصوم أيضا عن الحسد والغش والغرور والخيانة والرياء والكبر وقال صلى الله عليه وسلم "من تكبر على الله وضعه ومن تواضع لله رفعه".

صيام الإرادة
يكون بكبح العاطفة الجياشة قبل أن تتحول إلى شهوة حيوانية، كأن تتحول اللمسة والقبلة البريئة للزوجة إلى شهوة.

صيام الفكر

بألا ينقاد وراء الأفكار التي يمكن أن تورده المهالك لأن مكمن الأخطاء التي يرتكبها الإنسان تبدأ بفكرة.

صيام العاطفة

 أن تقف ضمن حدود المشاعر السوية، بعيدًا عن أي رغبات مجنونة قد تورد الندم.  

صيام الشم

بالابتعاد عن أي رائحة خبيثة تنفر النفوس منها وتشمئز وكذلك الابتعاد عن أي روائح طيبة يعرف الإنسان أنها قد تهيج مشاعره وتستفز شهواته.

وصيام اللمس (بالجلد أو البشرة)

أن يتجنب الإنسان كل ما من شأنه أن يورده موارد التهلكة فلا ينجذب إلى المحرمات عليه، ولا يفرط في المحللات له حتى لا يقع في المحظور. 

صيام اللسان

اللسان يجب أن يكون ذاكرا شاكرا مسبحا مستغفرا، وللسان صيام خاص يعرفه الذين هم عن اللغو معرضون، واللسان يجب أن يديم الصيام في رمضان وغير رمضان، وقال تعالى"مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"ق18.
 وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه "كف عليك هذا وأشار إلى لسانه" فقال معاذ: أو إنا لمؤاذخون بما نتكلم به يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ".
وفي الصحيح " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
وقال الشافعي رحمه الله: جراحات اللسان لها التئام    ولا يلتئم ما جرح اللسان 
وقال أيضا:لسانك لا تذكر به عورة امرئ             فكلك عورات وللناس ألسن

واللسان يصوم عن الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور واللغو واللهو والهراء والتنابذ بالألقاب والبذاءة واللعن والسباب والسخرية من الآخرين. 

صيام العين

قال تعالى" قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ" النور30، وغض البصر هو سد لمنافذ الشيطان لأن العين هي المنفذ للقلب والروح ومن لم يشاهد الشيء فلن تطلبه نفسه ولن يشتهيه، والصوم يهذب النظر ويطفئ حرارة البصر فيضعف شهوة.
وصيام العين غضها عن الحرام وغلقها عن الفحشاء وإغماضها عن المناهي وعن هتك المحارم وتركها خائنة الأعين.
وفي الصحيح أن عليا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر فقال له: "غض بصرك".

صيام الأذن

قال تعالى"إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" الإسراء36. 
والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه هم فقط...المؤمنون، وهم الذين يعرضون عن الخوض في النميمة "قد أفلح المؤمنون* الذين هم عن اللغو معرضون" المؤمنون1 ،2

والإنسان يهذب أذنه بسماع القرآن الكريم والسنة والأقوال الحسنة والعلوم النافعة والمعارف المفيدة فسماع الحق يزيد القلب ثباتا وتمسكا بالحق. "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ" المائدة83.
والأذن تصوم عن سماع الفحش والبذاءة وتصوم عن سماع الغيبة والنميمة ونهش أعراض الناس بدون رد غيبتهم، وقال تعالى "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عنه" القصص55

صيام البطن

خلق الله تعالى لنا من الطيبات كل ما تشتهيه الأنفس وأحله لنا وحرم علينا كل ما تنفر منه النفس السوية والعجيب أننا نرى – شارب الخمر مثلا- يتجرعه مشمئزا نافرا كأنما يعذب نفسه، فلماذا تعصي ربك وتعذب نفسك؟؟؟ 
وقال تعالى "ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ" الأعراف157.

والمسلم لا يأكل ولا يشرب إلا حلالا طيبا من كسبه وعمل يديه وقد أمر الله تعالى أنبياءه بالأكل من عمل أيديهم "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً" المؤمنون51
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" البقرة172.

وفي الصحيح " ما أكل عبد طعاما خيرا من أن يأكل من كسب يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من طعام يده".

وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن آكل الحرام غير مستجاب الدعوة فقال صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيباَّ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّيَ بالحرام...فأنَّى يُستجاب له !!!!
وصيام البطن يكون عما أحل الله من طعام وشراب ومن باب أولى اجتنابه للحرام وأكل السحت وأكل الربا "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً" آل عمران130، وأكل مال اليتيم "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً" النساء10. واجتناب الرشوة "لعن الله الراشي والمرتشي".

صيام اليد 

اليد تصوم عن البطش وعن العنف وخاصة العنف مع الأطفال والنساء... والصوم عن إيذاء الغير وعن مد اليد إلى الحرام كسرقة ورشوة أو اختلاس...وغيرها.

صيام الرِجل

 يجب على الرِجل أن تسرع الخطى إلى المساجد ومجالس العلم وصلة الرحم ويجب أن تصوم عن الذهاب إلى أماكن محرمة....فكل خطوة محسوبة خيرا كانت أم شرا.


وليعلم كل إنسان أن يده ورجله وكل جارحة فيه ستشهد عليه يوم القيامة "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" النور24.
#سوسن_سحاب